روابط للدخول

خبر عاجل

حلقة جديدة


خالد القشطيني

من المعتاد في سائر المجتمعات الزراعية و التقليدية ان يظهر في قراها و مدنها الصغيرة من يسلي المجتمع بطرائفه و حكاياته و مقالبه . يجلس في المقهى او على حافة الترعة او النهر ، يغني احيانا و ينكت احيانا اخرى فيستأنس به سكان الناحية. كانوا يسمون مثل هذا الشخص في بريطانيا " معتوه القرية" . و كذا ظهر مثل ذلك في معظم القرى و الاحياء الشعبية في العراق في ايام الخير. رأيت الكثير منهم في سفراتي و جولاتي في بلادنا.

من هذه الشخصيات التقليدية المحبوبة و التي نالت شعبية كبيرة في منطقتنا من ناحية الاعظمية و اشتهرت بين السكان ، شخصية الفتى ، شعيب بن ابراهيم، المعروف بين المعاظمة بشعوبي. كان شخصية متعددة الجوانب، كانت النجارة واحدة من هواياته. تحدى فيها زملاءه على صنع بلم (زورق) ورغم توقعهم بأنه لن يبتعد به غير بضعة امتار حتى يتحطم ويغرق، فان ذلك لم يحدث. عبر به نهر دجلة من محلة الصليخ وعاد به سالما معافى بين تصفيق الحاضرين.

صادف ذلك خروج اليهود ومعهم عازفو المقام. كانت آلة الجوزة ، هذه الآلة الوترية العجيبة من اهم الآلات الموسيقية العراقية المستعملة في اجواق المقام العراقي، ولم يحسن صنع الجوزة في تلك الايام غير اليهود. وبعد رحيلهم الى اسرائيل، تحير القوم في ما يمكن ان يفعلوه بغيابهم. بيد ان هذا العبقري الشعبي شعوبي ضرب على صدره وقال «دونكم انا ادبرها». وصدق فيما قال. جاء بجوزة هند اشتراها من دكان البقال ابو فوزي ، اكل لبابها و شرب حليبها الطيب و انكب عليها بمنشاره و مبرده و مثقبه و لم تمر غير ايام قليلة حتى صنع آلة جوزة بعمل حرفي معظماوي اصيل. بيد ان نجاحه هذا جره الى تعلم العزف عليها حتى اصبح من اشهر العازفين العراقيين، وسد بذلك النقص الذي تركه اليهود بعد هجرتهم من وطنهم القديم.

هكذا انقلب من بلاّم الى نجار ثم الى موسيقار. ولكنه سبق ايضا وتحول الى شاعر وممثل. كان شعوبي ممن يسمونه المصريون "بتاع كله". اعتدنا على مشاهدته على مسرح المدرسة يغني وينشد ويمثل مشاهده الكوميدية. عارض عندئذ الفيلم الذي غنت فيه ام كلثوم: ««غني لي شوي شوي، غني لي وخد عيني». فصعد شعوبي في احدى حفلاتنا المدرسية واعاد سبك الاغنية بما اثار ضحكنا واستحساننا: «مشيني دبي دبي، مشيني وخذ عيني».
بيد ان طلبة ثانوية الاعظمية ضجوا بقصيدته الشعبية الشهيرة، «عمي يا أستاذ الجبر»، التي ألقاها من المسرح ساخرا فيها من دروسنا.

وفي تلك الايام، كنا نعاني بصورة خاصة من درس الانجليزي. ساورنا الاعتقاد بأنها لغة اعداء الوطن، الانجليز، فكرهناها وأهملناها، والظاهر ان هذا الشعور تملك بصورة خاصة صاحبنا شعيب بن ابراهيم . ظل يرسب في هذا الدرس سنة بعد سنة. وترك الدراسة بسببه دون ان ينال شهادة الثانوية.

ما ان انتهى شعوبي من هجائه للدرس غناء حتى شاعت القصيدة بين سائر الاوساط الطلابية في العراق. وما زال الكثير منا، وانا في مقدمتهم، نتذكر الكثير منها:

عمي يا أستاذ الجبر
درسك يتعب الفكر
سين و صاد تحت الجذر
و الناتج يطلع لك صفر
الناقص في الناقص زائد
اسمع مني و لا تعاند
لا تنقص و لا تزايد
اسكت احسن لك و اصبر
عمي يا استاذ الجبر

بالانكليزيى ، كود باي
ما خليت براسي راي
و وتر يسمون الماي
و برج يسمون الجسر
عمي يا استاذ الجبر

كانت ملهاة ظريفة من شعوبي المتشعب الادوار، استمتعنا بها وخففت عنا عناء الدرس وقلق الامتحانات. وهو ما حداني الى استذكارها والطلبة يمرون بمثل ظروفها الآن في هذه الايام الصعبة . شدوا حيلكم وتجبروا باشعار شعيب بن ابراهيم و افعاله و اقواله و كل ما آنسنا به في تلك الايام من ايام العراق الحلوة ، ايام الخير.

على صلة

XS
SM
MD
LG