روابط للدخول

خبر عاجل

من شاعر الى تتنجي


كلما انظر الى الترف الذي يعيشه الشعراء ، او على الأقل مشاهير الشعراء المداحين في هذه الأيام و من اصبحوا يتعيشون من تزويد نجوم الطرب بالأغاني ، اتذكر الفقر و شظف العيش الذي عاشه شعراء الأمس. و اول من يرد منهم الى الذهن هو معروف الرصافي الذي كنت اراه و انا صبي صغير يقضي وقته لابسا الغترة و العقال ، جالسا بالدشداشة البيضاء على حافة الطريق في الأعظمية ، قريبا من المقبرة الملكية. لايدري من أين سيأتيه عشاء اليوم. فبالضبط كان كثيرا ما يتوقف طعامه على ما يجود به الكرام من الجيران و الأصحاب المعجبين.

بيد ان نوري السعيد ، رئيس الوزراء كان يقدر الشعراء و الأدباء و يفسح لهم المجال في أطار الديمقراطية الناشئة و ما تيسر من حرية الفكرفي تلك الأيام. فتركه وشأنه حرا في معيشته و كثيرا ما مده بالمساعدات خفية و تسترا. كان يعرف ان الرصافي الأبي اذا سمع بمصدر المساعدة ، أي انها من الحكومة فسيرفض استلامها. حار ابوصباح في امره حتى خطرت له فكرة.

كانت السكائر شحيحة في تلك الأيام ، ايام الحرب العالمية الثانية ، و اعتادت مديرية انحصار التبغ العامة على توزيعها بالتقنين، بالكوبونات. و يظهر ان مدير المؤسسة كان من عشاق شعر الرصافي ، فاوعز له نوري السعيد بأن يخصص حصة سخية لا بأس بها من باكيتات السكائر المقننة لهذا الشاعر الكبير، الذي سارع بدوره الى بيعها بالسوق السوداء ليقتات من فرق السعر، دون أن يعرف شيئا عن دور رئيس الوزراء في الأمر. و هكذا يمكن القول ان شاعرنا الكبير معروف الرصافي رحمه الله عاش من الأتجار في السوق السوداء. و كنا جميعا نعتبر ذلك اهون بكثير من المتاجرة بالوطنية الذي اصبح مع الأسف شيئا شائعا في هذه الأيام . فالأمور انقلبت بالمعكوس كما نعرف.

ومع ذلك فإن ما كان يكسبه من بيع السكائر لم يكن كافيا حتى لسد ايجار البيت، مما اضطره الى شراء طعامه من سكر و شاي و دهن و نحوذلك، من دكان جمعة العطار بالنسيئة ، بالدين. و اصبح موضوع تسديد الدين للعطار سجلا من الخصام و العراك. و كثيرا ما أثخن العطار الدائن في كلامه و تأنيبه للشاعر. كان يقول له:" لو كان عندك عقل كان شفت لك مهنة بيها خير و توكلك خبز ولا تشتغل بالشعر وهالكلام الفارغ."

اخيرا قرر جمعة العطار اعتبار الشاعر الكبير معسرا عاجزا عن التسديد و امتنع عن بيعه أي شيء. ما الذي يستطيع ان يرد به الشاعر على هذا الظلم و التعسف بغير ان ينفس عن عواطفه بالشعر. فكتب بيتين شاعتا بين سكان الأعظمية ، فقال:

عجبت لأهل الأعظمية كيف لا
يرضون جيرة جمعة العطار
جاورته زمنا و كان جواره ،
في منتهى الأنصاف، شر جوار


كان المنتظر من هذا العطار ، وقد خلده الشاعر في شعره، أن يفتح له دكانه بعد ذلك و يقول له ، تفضل وخذ كل ما تريد. و لكنه لم يفعل، ففي ذلك الزمن كان الناس عقلاء و حكماء و يعرفون اوادمهم ولم يعتبروا الشعر وقائل الشعر شيئا ذا بال. فبقي معروف الرصافي يعتمد في معيشته على بيع السكائر و استلام المساعدات من اصحابه المعجبين بشعره و وطنيته. ويقال ان مصدر الكثيرمنها كان نوري السعيد نفسه متخفيا وراء زملاء الشاعر.

لم تكن حياة الشاعر فقط محفوفة بالمفارقات ، بل وكذلك كانت وفاته. فعندما ادركته المنية في اواخر الأربعينات ، تقدم المحسنون هنا ايضا بنفقات تابوته وتشييعه ودفنه . كان المنتظر أن يدفن بجوار الأمام ابي حنيفة ولكنهم وجدوا ان خصمه القديم جميل صدقي الزهاوي قد سبقه و احتل الركن المجاور للأمام . اتفق الجميع على ان دفنه قريبا منه ، اي من الزهاوي سيحيي ذلك النزاع القديم بينهما فيعودان للعراك و المشاجرة و يستمران به الى يوم الحشرو النشور. فعبروا الشارع بجثمانه و دفنوه في الجانب الآخر من الطريق العام بعيدا عن الأمام ابي حنيفة. المهم أن جمعة العطار لم يعترض طريقهم و يقول : قفوا لا يدفن هذا الرجل حتى يسدد حساب السكر و الشاي و الصابون.

كان الرجل في آخر المطاف ابن حلال و فاعل خير فمات الشاعر محلل و مهوب
XS
SM
MD
LG