أياد الکيلاني
قبل الفي عام اعتبر الكاتب الروماني (بليني الأكبر) أن اللعنتين الكبيرتين على الحضارة تتمثلان في الذهب والفضة، فهل يجب إضافة النفط والغاز إلى هذه القائمة؟ هناك العديد من المواطنين في الدول النفطية المصابين بخيبة أمل سيؤيدون ذلك، اذ ان انظامة حكمهم تسيىء استخدام أرباح مصادر الطاقة لادامة بقائها في السلطة. ولكن النفط – شأنه شأن الذهب والفضة – ليس سوى سلعة يمكن استخدامها بحكمة بقدر ما يمكن إساءة استخدامها، كما يوضح مراسل إذاعة العراق الحر تشارلز ريكناغيل في هذا التقرير.
من المميزات الغريبة للثروة النفطية هي أنها تحول أحينا دون قدرة البلدان على إنضاج اقتصادها، ما لم تتم إدارتها بشكل جيد، ونعني بالنضوج توفّر القدر الكافي من التنوع الكفيل بتحمل الصدمات التي يتعرض إليها أحد قطاعاتها نتيجة ما يطرأ على التجارة العالمية من مد من جزر. ومن المفارقات أن أحد القطاعات الأكثر تعرضا للصدمات وهو سوق تصدير النفط بحد ذاته، ما يضاعف أهمية تمتع الأنظمة الاقتصادية المرتكزة على النفط بقطاعات أو استثمارات أخرى، قادرة على توفير الإيرادات حين تتراجع أرباح النفط.
إن قدرة النفط هذه على إعاقة التنمية الاقتصادية معروفة على نطاق علمي بدرجة جعلتها تستحق تسمية خاصة، فسميّت (الداء الهولندي)، وذلك لما مرت به هولندا في أعقاب اكتشاف الغاز الطبيعي في أراضيها في أواخر الستينيات، فلقد أسفر استكشاف الغاز عن جعل هولندا أغنى من ذي قبل وبشكل مفاجئ، إلا أنه أعاق بشكل دراماتيكي قطاعها الصناعي المزهر. فكلما اتسعت وانتشرت صناعة الغاز، زادت من سحبها لرؤوس الأموال والأيدي العاملة الماهرة من قطاعي الصناعة والزراعة.
والأسوأ من ذلك كان الزيادة التي طرأت على قيمة العملة الهولندية نتيجة تدفق الاستثمارات الأجنبية على البلاد، فلقد أسفر السعر الجديد لصرف العملة عن جعل المنتجات الهولندية مرتفعة الثمن بالنسبة إلى المشترين الأجانب، ما أجبر العديد من المصانع على التخلي عن عملها. أما البضائع المستوردة فلقد هبط سعرها بدرجة جعلها تحل محل المنتجات المحلية حتى في الداخل.
لقد تمكنت هولندا من السيطرة على هذه المشاكل من خلال فرض الضرائب على أرباح الغاز كي تستخدم في تدعيم القطاعات الأحرى وللسيطرة على التضخم، إلا أن (الداء الهولندي) لم يزل منشرا في العديد من الدول الأخرى المنتجة للنفط، إحداها أذربيجان حيث يرأس انقلاب احمدوف تحالفا من المنظمات غير الحكومية الداعية إلى الشفافية في قطاع بلاده النفطي، فهو يشرح الاقتصاد هماك على النحو التالي:
"البضائع الأجنبية هي التي نجدها الآن بشكل رئيسي في أسواقنا، خصوصا المنتجات الزراعية التي كانت تقليديا مما تنتجها أذربيجان. لا توجد لدينا حالة من التنافس وذلك كتأثير مباشر للنفط ولـ(الداء الهولندي)، ولدينا مستوى مرتفع من التضخم وهو الآخر من الظواهر الواضحة لـ(الداء الهولندي)، كما نواجه مشكلة مع أهلية اقتصادنا الداخلي للتنافس، وخصوصا في القطاع الصناعي."
الأسبوعية البريطانية The Economist أشارت العام الماضي إلى أن "أذربيجان شهدت نموا لم يتجاوز 1% في الإنتاج الزراعي، بينما تعرض إنتاج المحاصيل الأساسية – مثل القطن والأرز والبطاطس."
وتحذر الشهرية من أن "الوضع الحالي ربما من شأنه أن يجعل أذربيجان تتحول من مصدر كبير للمنتجات الزراعية إلى مستورد رئيسي خلال فترة تقل عما استغرقه نفس التحول في نيجيريا – وهي دولة أخرى تعاني من (الداء الهولندي) - أي أقل من 15 عاما."
ومن أجل تخفيف آثار (الداء الهولندي) وتشجيع اقتصادها على التنوع يقوم العديد من الدول النفطية – بما فيها روسيا وأذربيجان – بإيداع بعض إيرادات قطاعها النفطي في صناديق خاصة، بهدف منع ثرائها المفاجئ من تضخيم عملتها المحلية، ما قد يقوض قطاعات أساسية أخرى و يؤجج التضخم. كما يمكن لصناديق الاستقرار هذه أن تشكل – وإن كان بشكل جزئي – خزينا لتمويل البرامج الاجتماعية حي تهبط أسعار النفط، فلقد تمكنت روسيا، مثلا، من اكتناز ما قيمته 500 مليار دولار من العملات الأجنبية الاحتياطية وفي صناديق أخرى، وذلك بفضل عائدات النفط بصورة أساسية.
إلا أن مع وجود صناديق الاستقرار ما زال الناس في بلدان مثل أذربيجان يعانون من أعراض (الداء الهولندي)، فما الذي يجعله باقٍ في أذربيجان وما الذي جعله يختفي في هولندا؟ الإجابة – بحسب العلماء السياسيين – يوضحون بأن الفرق يكمن في التباين بين الحكم الفردي والديمقراطية، فالأنظمة الفردية تحتاج إلى شراء التأييد من أفراد أو جماعات ذات نفوذ ، والمغريات في أي استخدام الثروة النفطية بهذه الطريقة بدلا من حسن إدارتها تعتبر مغريات كبيرة.
في المقابل، تتمتع الدول الديمقراطية بمؤسساتها الواقية – كالبرلمان القوي المنتخب، والصحافة الحرة، والقضاء المستقل – الكفيلة لمنع الحكومة من سوء استخدام الإيرادات. وهذا هو الوضع القائم في النرويج – وهي ثالث أكبر مصدّر للنفط في العالم – فهي تنعم اليوم بإحدى أغنى اقتصاديات العالم، مع مساهمة النفط والغاز بنسبة لا تتجاوز 25% من الناتج الإجمالي المحلي. أما القسم المتبقي من ثرائها فيتحقق من خلال اقتصاد متنوع يستند إلى الزراعة، وصيد الأسماك، وموارد الغابات، والصناعة، من بين قطاعات أخرى.
وتعتبر السيدة مارينا اوتاوي من معهد كارنغي للسلام العالمي في واشنطن أن نجاح النرويج يعود إلى العوامل التالية:
"يعود الكثير إلى ادخار الأموال، أي عدم إنفاقها مرة واحدة بل ادخارها، ولدى النرويج صندوق ائتماني بالغ الأهمية للأجيال القادمة، وتسعى إلى توزيع أرباح النفط عبر فترة زمنية أطول بكثير، كي لا تمر البلاد بفترات متناوبة من الخيرات والمجاعة."
كيف استخدمت النرويج إيراداتها النفطية؟ لقد سددت جميع ديونها الخارجية الثقيلة التي تراكمت خلال سنوات القحط السابقة لاكتشاف النفط في بحر الشمال في أواخر الستينيات، وأعادت استثمار أرباحها النفطية عبر مجمل قطاعات اقتصادها، وادخرت الأموال كما قامت باستثمار الكثير من المال بالنيابة عن أجيال المستقبل في مستندات وأسهم أجنبية.
ومن الملفت أن رغم بلوغ صندوق الاستقرار – المعروف باسم (صندوق الدولة النفطي) – بلغ رصيده الآن نحو 350 مليار دولارا، ما زال المواطنون النرويجيون يدفعون الضرائب وليس هناك آلية وصاية ضخمة ترعاها الدولة. وبعبارة أخرى، فإن الحياة في النرويج تشبه كثيرا الحياة في أي بلد ديمقراطي ناجح آخر ينعم باقتصاد متنوع ومستقر.
قبل الفي عام اعتبر الكاتب الروماني (بليني الأكبر) أن اللعنتين الكبيرتين على الحضارة تتمثلان في الذهب والفضة، فهل يجب إضافة النفط والغاز إلى هذه القائمة؟ هناك العديد من المواطنين في الدول النفطية المصابين بخيبة أمل سيؤيدون ذلك، اذ ان انظامة حكمهم تسيىء استخدام أرباح مصادر الطاقة لادامة بقائها في السلطة. ولكن النفط – شأنه شأن الذهب والفضة – ليس سوى سلعة يمكن استخدامها بحكمة بقدر ما يمكن إساءة استخدامها، كما يوضح مراسل إذاعة العراق الحر تشارلز ريكناغيل في هذا التقرير.
من المميزات الغريبة للثروة النفطية هي أنها تحول أحينا دون قدرة البلدان على إنضاج اقتصادها، ما لم تتم إدارتها بشكل جيد، ونعني بالنضوج توفّر القدر الكافي من التنوع الكفيل بتحمل الصدمات التي يتعرض إليها أحد قطاعاتها نتيجة ما يطرأ على التجارة العالمية من مد من جزر. ومن المفارقات أن أحد القطاعات الأكثر تعرضا للصدمات وهو سوق تصدير النفط بحد ذاته، ما يضاعف أهمية تمتع الأنظمة الاقتصادية المرتكزة على النفط بقطاعات أو استثمارات أخرى، قادرة على توفير الإيرادات حين تتراجع أرباح النفط.
إن قدرة النفط هذه على إعاقة التنمية الاقتصادية معروفة على نطاق علمي بدرجة جعلتها تستحق تسمية خاصة، فسميّت (الداء الهولندي)، وذلك لما مرت به هولندا في أعقاب اكتشاف الغاز الطبيعي في أراضيها في أواخر الستينيات، فلقد أسفر استكشاف الغاز عن جعل هولندا أغنى من ذي قبل وبشكل مفاجئ، إلا أنه أعاق بشكل دراماتيكي قطاعها الصناعي المزهر. فكلما اتسعت وانتشرت صناعة الغاز، زادت من سحبها لرؤوس الأموال والأيدي العاملة الماهرة من قطاعي الصناعة والزراعة.
والأسوأ من ذلك كان الزيادة التي طرأت على قيمة العملة الهولندية نتيجة تدفق الاستثمارات الأجنبية على البلاد، فلقد أسفر السعر الجديد لصرف العملة عن جعل المنتجات الهولندية مرتفعة الثمن بالنسبة إلى المشترين الأجانب، ما أجبر العديد من المصانع على التخلي عن عملها. أما البضائع المستوردة فلقد هبط سعرها بدرجة جعلها تحل محل المنتجات المحلية حتى في الداخل.
لقد تمكنت هولندا من السيطرة على هذه المشاكل من خلال فرض الضرائب على أرباح الغاز كي تستخدم في تدعيم القطاعات الأحرى وللسيطرة على التضخم، إلا أن (الداء الهولندي) لم يزل منشرا في العديد من الدول الأخرى المنتجة للنفط، إحداها أذربيجان حيث يرأس انقلاب احمدوف تحالفا من المنظمات غير الحكومية الداعية إلى الشفافية في قطاع بلاده النفطي، فهو يشرح الاقتصاد هماك على النحو التالي:
"البضائع الأجنبية هي التي نجدها الآن بشكل رئيسي في أسواقنا، خصوصا المنتجات الزراعية التي كانت تقليديا مما تنتجها أذربيجان. لا توجد لدينا حالة من التنافس وذلك كتأثير مباشر للنفط ولـ(الداء الهولندي)، ولدينا مستوى مرتفع من التضخم وهو الآخر من الظواهر الواضحة لـ(الداء الهولندي)، كما نواجه مشكلة مع أهلية اقتصادنا الداخلي للتنافس، وخصوصا في القطاع الصناعي."
الأسبوعية البريطانية The Economist أشارت العام الماضي إلى أن "أذربيجان شهدت نموا لم يتجاوز 1% في الإنتاج الزراعي، بينما تعرض إنتاج المحاصيل الأساسية – مثل القطن والأرز والبطاطس."
وتحذر الشهرية من أن "الوضع الحالي ربما من شأنه أن يجعل أذربيجان تتحول من مصدر كبير للمنتجات الزراعية إلى مستورد رئيسي خلال فترة تقل عما استغرقه نفس التحول في نيجيريا – وهي دولة أخرى تعاني من (الداء الهولندي) - أي أقل من 15 عاما."
ومن أجل تخفيف آثار (الداء الهولندي) وتشجيع اقتصادها على التنوع يقوم العديد من الدول النفطية – بما فيها روسيا وأذربيجان – بإيداع بعض إيرادات قطاعها النفطي في صناديق خاصة، بهدف منع ثرائها المفاجئ من تضخيم عملتها المحلية، ما قد يقوض قطاعات أساسية أخرى و يؤجج التضخم. كما يمكن لصناديق الاستقرار هذه أن تشكل – وإن كان بشكل جزئي – خزينا لتمويل البرامج الاجتماعية حي تهبط أسعار النفط، فلقد تمكنت روسيا، مثلا، من اكتناز ما قيمته 500 مليار دولار من العملات الأجنبية الاحتياطية وفي صناديق أخرى، وذلك بفضل عائدات النفط بصورة أساسية.
إلا أن مع وجود صناديق الاستقرار ما زال الناس في بلدان مثل أذربيجان يعانون من أعراض (الداء الهولندي)، فما الذي يجعله باقٍ في أذربيجان وما الذي جعله يختفي في هولندا؟ الإجابة – بحسب العلماء السياسيين – يوضحون بأن الفرق يكمن في التباين بين الحكم الفردي والديمقراطية، فالأنظمة الفردية تحتاج إلى شراء التأييد من أفراد أو جماعات ذات نفوذ ، والمغريات في أي استخدام الثروة النفطية بهذه الطريقة بدلا من حسن إدارتها تعتبر مغريات كبيرة.
في المقابل، تتمتع الدول الديمقراطية بمؤسساتها الواقية – كالبرلمان القوي المنتخب، والصحافة الحرة، والقضاء المستقل – الكفيلة لمنع الحكومة من سوء استخدام الإيرادات. وهذا هو الوضع القائم في النرويج – وهي ثالث أكبر مصدّر للنفط في العالم – فهي تنعم اليوم بإحدى أغنى اقتصاديات العالم، مع مساهمة النفط والغاز بنسبة لا تتجاوز 25% من الناتج الإجمالي المحلي. أما القسم المتبقي من ثرائها فيتحقق من خلال اقتصاد متنوع يستند إلى الزراعة، وصيد الأسماك، وموارد الغابات، والصناعة، من بين قطاعات أخرى.
وتعتبر السيدة مارينا اوتاوي من معهد كارنغي للسلام العالمي في واشنطن أن نجاح النرويج يعود إلى العوامل التالية:
"يعود الكثير إلى ادخار الأموال، أي عدم إنفاقها مرة واحدة بل ادخارها، ولدى النرويج صندوق ائتماني بالغ الأهمية للأجيال القادمة، وتسعى إلى توزيع أرباح النفط عبر فترة زمنية أطول بكثير، كي لا تمر البلاد بفترات متناوبة من الخيرات والمجاعة."
كيف استخدمت النرويج إيراداتها النفطية؟ لقد سددت جميع ديونها الخارجية الثقيلة التي تراكمت خلال سنوات القحط السابقة لاكتشاف النفط في بحر الشمال في أواخر الستينيات، وأعادت استثمار أرباحها النفطية عبر مجمل قطاعات اقتصادها، وادخرت الأموال كما قامت باستثمار الكثير من المال بالنيابة عن أجيال المستقبل في مستندات وأسهم أجنبية.
ومن الملفت أن رغم بلوغ صندوق الاستقرار – المعروف باسم (صندوق الدولة النفطي) – بلغ رصيده الآن نحو 350 مليار دولارا، ما زال المواطنون النرويجيون يدفعون الضرائب وليس هناك آلية وصاية ضخمة ترعاها الدولة. وبعبارة أخرى، فإن الحياة في النرويج تشبه كثيرا الحياة في أي بلد ديمقراطي ناجح آخر ينعم باقتصاد متنوع ومستقر.