روابط للدخول

خبر عاجل

حلقة جديدة


خالد القشطيني

من المشاهد التي لفتت نظري و خلدت في ذاكرتي بعد زيارة لي لقلعة صالح في جنوب العراق مشهد كشف لي عن العلاقة القوية بين شيخ العشيرة و افراد عشيرته. و في هذه الايام التي يتناقش فيها الفقهاء و الساسة عن جواز او عدم جواز تعيين المرأة في مناصب الرآسة و الحكم ، كانت هناك امرأة تولت رآسة عشيرة كبيرة في جنوب العراق بعد وفاة زوجها و زاولت عملها بإسم الشيخة ساعة.

لم يكن هناك أي مغنين محترفين في الحفلة التي دعتنا اليه الشيخة الفاضلة. و انما كانت هناك شلة من افراد العشيرة ممن وهبهم الله صوتا رخيما و اذنا موسيقية . راحوا يغنون و يرتجلون الابوذيات واحدا بعد الآخر وعلى هواهم. كانت كلها اغاني حزينة ككل الاغاني العراقية، و لكن احد المغنين تمادى في الحزن حتى تحولت الاغنية عنده الى رثاء و عزاء ما انفك الا وانفجر في بكاء مرير من المغني.

انهالوا عليه بالضرب و الركل و رموا به خارج المجلس. " يا ابن الكلب تقعد تنحب و تقلب الفرح عزا قدام القيمقام؟" تقدم السركال ليعتذر الى اخي احسان ، القائمقام بأن ذلك المغني كان من عشيرة اخرى. الظاهر ان موضوعه تحول الى مسألة شك في الولاء. وهو شيء اعتدنا عليه مع الاسف.

على الطرف الآخر من منطقة الاهوار، وقعت ناحية " المدينة" التي تسلم اخي احسان ادارتها. لم يكن في ناحية المدينة أي كهرباء او ماء نقي او إضاءة غير فانوس نفطي كانوا يعلقونه امام بيت مدير الناحية، كرمز لهيبة الحكومة. عاد احسان ذات ليلة فوجد الفانوس مطفأ فاستشاط غضبا و تصور ان انقلابا قد حصل في البلاد. فنادى على كاتب الناحية و معلم المدرسة و عريف الشرطة و البوسطجي . فخرجوا بدشداشاتهم تاركين زوجاتهم وراءهم يبتهلن الى الله ان تمر الازمة بسلام ولا يسجن مدير الناحية كل ازواجهن. بادرهم غاضبا : " ليش الفانوس مطفي اليوم؟ يعني الحكومة ماتت؟"

اجابه كاتب الناحية باضطراب: " سيدي، مدير الناحية السابق ، الاستاذ فاضل، امر بأن نقتصد بالنفط لما يكون اكو قمر قوي بالسما." امر احسان بإلغاء الأمر السابق و ان يستبدل به امر جديد. " من اليوم و صاعدا ، اكو قمر، ماكو قمر بالسما ، الفانوس لازم يشتعل."

انا واثق الآن ، انهم عندما سيكتبون تاريخ العراق الحديث سيذكرون هذه المأثرة لأخي احسان فيقولون انه في عهد احسان القشطيني جرت اصلاحات مهمة في ناحية المدينة كان منها ايقاد فانوس المدينة في الليالي المقمرة ايضا.

عدت الى بغداد فرويت لوالدتي رحمها الله ما قام به ابنها في المدينة فقالت في حسرة و اسى، " معلوم! اخوك احسان الله خالقه على الصرف و التبذير. اذا كان يخلي الراديو يشتغل الليل كله وهو نايم يشوخر ، ليش ما يشعل الفانوس واكو قمر نشيط في السما؟!"

بيد ان الاصلاح الاكبر الذي قام به احسان في مدينة المدينة كان في تغيير المشحوف ( الزوراق التقليدي ) بالماطور الآلي.

يظهر ان احسان اعتبر جلوس المدير في مشحوف عملا مخلا بكرامته فاستطاع ان يقنع متصرفية البصرة بشراء ماطور للمدينة. و اصبح هذا عجبة من عجائب الزمان و منظرا يستأسر بالالباب. ما ان سمع صوت المحرك قادما من بعيد ، طط...طط...ططط، حتى خرجت فتيات المدينة و اطفالها و شيوخها للتفرج عليه يشق عباب مياه الهور بقدرة الخالق. لم يكن الجاموس اقل استجابة للعصرنة و التحديث. ما ان سمعت بمجيء الماطور حتى اسرعت سباحة نحو مجراه لتتفرج عليه. وقد عجز عريف الشرطة عن تعليم الجاموس قواعد المرور فكانت تتكأكأ برؤوسها و قرونها الضخمة امام الماطور فتحول دون تقدمه ، مما اضطر الشرطة الى الاستنجاد ببقية افراد الحكومة ، البوسطجي و الحارس و المضمد الصحي و معلم المدرسة. كانوا يقفون بعصا طويلة ليدفعوا الجاموس بعيدا عن ماطور مدير الناحية. بيد ان الاختلاف بين سرعة الماطور و سرعة الجاموس ادى الى وقوع كثير من الحوادث بحيث ان شرطة المدينة تعتز الآن بتسجيل الحادثة الوحيدة من نوعها في العالم وهي حادثة اصطدام بين جاموسة و زورق آلي.
و لكنها كانت كلها ايام ... قولوا ويايا... كانت كلها ايام خير.

على صلة

XS
SM
MD
LG