روابط للدخول

خبر عاجل

حكايات عن الأستاذ أحمد السقاف من الكويت ودراسته في بغداد


خالد القشطيني – لندن

كانت بغداد في أيام الخير مرتعا للكثير من مثقفي البلدان العربية وتلاميذها الذين كانوا يتقاطرون على العاصمة العراقية للدراسة والاستزادة. وكان العراق مضيافا كريما لهم. فتح لهم أبواب معاهده مجانا وكثيرا ما استضافهم في أقسامه الداخلية وخصص لهم ما يلزم لمعيشتهم. وكل ذلك دون أن يتدخل في شؤونهم أو أفكارهم أو اتجاهاتهم السياسية. برز منهم بصورة خاصة الطلبة من أبناء الكويت. ئي نعم، كانت أيام خير، وأيام خير وأخوّة بين أهل الكويت وأهل العراق.

كان بين هؤلاء الشباب من أهل الكويت الأستاذ أحمد السقاف. يروي في كتابه (حكايات من الوطن العربي الكبير) الشيء الكثير عن حياته الأدبية والدراسية في العراق. كان عالما متضلعا في شؤون اللغة والأدب العربي. حفظ القرآن الكريم وألفية ابن مالك والكثير من أحاديث الرسول صلى الله عليه وسلم. لسوء الحظ جرته معرفته الواسعة إلى مشادات مستمرة مع مدرّس اللغة العربية في المدرسة الإعدادية المركزية، أو كما كانت تعرف عندئذ بالثانوية المركزية قرب السراي. انفجرت العلاقة أخيرا عندما عمد المدرّس إلى شرح وإعراب القصيدة السينية للبحتري عن إيوان كسرى، وجاء إلى هذا البيت:

لو تراه عَلِمْتَ أنّ الليالي


جَعَلتْ فيه مأتما بعد عرْس

فقال إن (بعد) ظرف زمان مبني على الفتح. فرفع السقاف يده وقال: "هذا خطأ يا أستاذ، بل هي معربة لكونها مضافة إلى كلمة (عرس)، بعد (عرس)."

دخل الاثنان في مشادة جديدة أمام كل الطلبة انتهت بأن طلب من التلميذ أن يترك الصف. ولكن السقاف رفض الخروج وقال: "إنني على حق ولا داعي لهذا العقاب."

فقال المدرس: "إذن فسأخرج أنا." وخرج وذهب إلى المدير، السيد عبد الهادي المختار. اغتلى الدم في عروق المدير وبعث بالفراش ليأتيه بهذا التلميذ الكويتي المشاكس. جاؤوا به فانطلق الأستاذ المختار في تعنيفه: "يعني أنتَ دازيك علينا غضب من الكويت؟" ولكن أحمد السقاف لم يتراجع فانطلق يشرح للمدير أصل الحكاية.

لم يكن عبد الهادي المختار من المتضلعين في النحو والصرف، فنظر في وجه الأستاذ صادق الملائكة، العالم النحرير في هذه الشؤون ووالد الشاعرة المعروفة نازك الملائكة. كان مدرّس اللغة العربية المسؤول عن المشكلة مازال جالسا بين زملائه من زمرة المعلمين. فلم يشأ الأستاذ الملائكة أن يُحرجه أمام الحضور فاكتفى بأن غمز لعبد الهادي المختار بما يُفيد بأن التلميذ كان على حق ومصيبا في حكمه. وعندئذ أمر المدير التلميذ بالعودة إلى غرفة الدرس. ما أن عاد حتى التف الطلبة حوله ليَرَوْا من فاز بالسباق ومن خسر. وماذا فعل المدير بالخاسر أو الفائز، فقد اشتهر الأستاذ عبد الهادي المختار بالشدة والعصبية. وأثناء ذلك كان الأستاذ صادق الملائكة قد اصطحب مدرّس اللغة العربية إلى مكتبة المدرسة حيث فتح له مجموعة المصادر التي أقنعته في الأخير بصحة ما قاله التلميذ الكويتي.

يتوقع الإنسان من مثل هذا المعترَك أن تتسمم العلاقات بين الاثنين، المدرّس العراقي والتلميذ الكويتي الضيف. ولكن ذلك لم يقع. كانت أيام خير. ئي،.. بلي. عاد المدرّس للصف وانتهز أول فرصة ليعتذر لتلميذه النجيب عما قاله وعما حدث. مضت الأيام وإذا بالعلاقة بين الاثنين تنمو وتتعزز حتى أصبحا بمثابة الصديقين وأثمرت العلاقة عن صداقة فكرية وطيدة لما تلى ذلك من أيام النضوج والمسؤولية، أيام الخير. وكانا أهلا لها. عاد الأستاذ أحمد السقاف إلى وطنه الكويت، ولكن العراق ظل يحتل مكانا كبيرا في نفسه وذاكرته طالما تردد في كتاباته ومجالسه.

كان واحدا من أبناء الخير في تلك الأيام الحلوة، أيام الصفاء بين البلدين.

على صلة

XS
SM
MD
LG