روابط للدخول

خبر عاجل

طلقة من اجل تحرر المرأة


( لاقى تعليم المرأة و ذهاب البنات الصغيرات للمدارس معارضة كبيرة في البلدان الاسلامية ، كما نشهد اليوم في افغانستان. بيد ان العراق لم ينج من هذه المحنة في اول نشوء المملكة العراقية.)

محمد مهدي الجواهري من الشعراء الذين تزدحم حياتهم و اشعارهم بالتناقضات . انه رجل ضخم و احتوت ضخامته على التناقضات فيما احتوت عليه. و لكن من الواضح انه رغم كل ذلك فقلما حاد عن الخط التقدمي الذي رسمه لنفسه وهو السعي للتطوير و التجديد و العصرنة. تجلى ذلك حتى في قصيدته التي دافع فيها عن المني جوب( التنورة القصيرة) و حق الفتيات في لبسها. و كان قد اتخذ هذا الموقف منذ ايامه الاولى عندما اشتغل موظفا صغيرا في البلاط الملكي. قررت وزارة المعارف عام 1929 فتح اول مدرسة للبنات في مدينة النجف الاشرف. و شن رجال الدين حملة ضارية هناك قادها الشيخ كاظم اليزدي لمنع الوزارة من تعليم البنات. تصدى لهم ابو فرات بقصيدة طويلة نشرها بعنوان " الرجعيون" :
ستبقى طويلا هذه الازمات
اذا لم تقصر عمرها الصدمات
و تساءل القاريء و ما هي الصدمات التي يقصدها الشاعر؟ لم يمض القراء بقراءة ابيات قليلة اخرى حتى اصطدموا ببيت يسوق فيه الجواهري افضع الكلمات و اخس الصفات بحق مشايخ المدينة. ما ان نشرت جريدة " العراق" القصيدة حتى ثارت ثائرة القوم ضد الصحيفة و صاحبها و شاعرها. و ما انا بمن يهوى ايقاع " صوت العراق الحر" و سلسلة احاديثي هذه " ايام الخير" في هذه الأيام بمثل تلك الزوبعة التي وقعت بها صحيفة " العراق" في اعادة نشر ذلك البيت المقذع. ازداد الطين بلة عندما تصور القوم ان الملك فيصل الاول رحمه الله الذي كان حريصا على اشاعة التعليم بين البنات، قد حث الشاعر بنفسه على كتابة تلك القصيدة و نشرها دعما لحملته في تعليم المرأة العراقية و نشر الثقافة المعاصرة بين النساء.
اضطر الملك امام هذه التكهنات و الاتهامات الى استدعاء الشاعر الشاب و تأنيبه على سوء فعلته . فقد تجاوز حده و حدود حريته في نشر تلك القصيدة و هو موظف في البلاط الملكي و يعمل بصورة مباشرة مع الملك المغفور له. اعتذر محمد مهدي الجواهري عما فعل و بادر فقدم استقالته من وظيفته حرصا على سمعة البلاط و جلالة الملك. بيد ان فيصل الأول رفض استقالته و تركه في منصبه في البلاط. و لكن العلاقة بين الملك الحكيم و موظفه الشاب الصغير ظلت متعكرة حتى انهى الشاعر علاقته الرسمية بالبلاط ليتفرغ للصحافة حيث وجد ان بامكانه ان يزاول حريته في التعبير عن افكاره المتحررة دون حرج او مراعاة لوظيفة. فكان ان بادر الى نشر قصيدة عاطفية بث فيها لواعج شجونه و عبر فيها عن موقفه المتواصل ، المتأرجح بين حب العراق الى حد الهيام و الغضب عليه لحد الكره ، الأمر الذي ينتاب كثيرا من المثقفين العراقيين. فقال، و كأنه يعبر بلسانه عن لسانهم جميعا :
سكت حتى شكتني غر اشعاري
و اليوم أنطق حرا غير مهذار
وقعت انشودتي و الحزن يملأها
مهابة ، و نياط القلب اوتاري
في ذمة الشعر ما القى و اعظمه
اني اغني لأصنام و احجار
لو في يدي لحبست الغيث عن وطن
مستسلم وقطعت السلسل الجاري
العذر يا وطنا اغليت قيمته
عن ان يُرى سلعة للبائع الشاري
الكل لا هون عن شكوى و موجدة
بما لهم من لبانات و اوطار
و كيف يسمع صوت الحق في بلد
للأفك و الزور فيه الف مزمار
رحمك الله يا ابا فرات ، و يرحم ايامك الحلوة ، ايام التحرر و التطور و التنور، ايام الخير اللي فاتت. قدم استقالته للملك و تقبلها الملك على مضض ، و ربما على علم – كما اعتقد – بأن هذا الشاعر وهذا المفكر الواعي سيستطيع ان ينشر افكاره بحرية اكبر و قوة انفذ بين القطاعات الشعبية التي مازالت تقاوم كل جديد. مضى ابو فرات فأصدر جريدة الرأي العام التي لعبت دورا كبيرا في دعم الحركة التقدمية في العراق و نشر الأفكار العلمية و الايديولوجية العلمانية بين الجمهور و اعطاء درس في تحدي السلطة و القطاعت الرجعية التي تقف في وجه تحرر المرأة و مزاولة حريتها في التعلم و في اداء دورها في بناء المجتمع. .
XS
SM
MD
LG