روابط للدخول

خبر عاجل

امانة فلاح


كثيرا ما نلاحظ ان صفات الكرم و الصدق و الأمانة تتركز بين ضعاف الناس والفقراء وابناء الريف. هذا ما صادفه وخبره المحامي العراقي قصي القاضي عندما قرر تحويل مزرعته الى مرعى للغنم واقتضى عليه التعامل مع احد الرعاة.

يقولون في العراق لولا وجود هالنفر الصالحين لكان قلبها. ينطبق هذا القول على ما سمعته من صديقي الأستاذ قصي القاضي، المحامي و المستشار القانوني. التقيت به في لندن مؤخرا فحكى لي هذه الحكاية الطريفة و البليغة.
في هذه الأيام التي اختل فيها النظام و الأمن في العراق ، و كثرت السرقات و ضاعت الأمانة بين الناس، و هذا كله من تركة صدام حسين و ما خلفه من الثلاثين سنة التي حكم بها البلاد، اقول ، في هذه الأيام المضطربة، خطر له أن يستغل مزرعته بتربية قطيع من الغنم فيها و يستفيد من أسعار الغنم و اللحم في الأسواق. ابتاع نحو مائة و عشرين خروفا و نعجة و جاء بواحد راع ليرعى بها و يسهر على شؤونها. و جرى الأتفاق التقليدي بأن يكون للراعي نصف كل طلي تلده النعاج و النصف الآخر يكون لمالك النعجة و الخروف. يحسبون في نهاية الموسم كم ولدت النعجات من طليان و يتقاسمونها ، نص بنص.

مضى العمل ببركة الله و كل شيء على ما يرام. و لكن الغنمات التي جاء بها اخونا قصي القاضي كانت حديثة العهد في مزرعته. ربما وجدت ان هذه المزرعة مزرعة افندية و مزرعة رجل يؤمن بالحرية و الديمقراطية .و مثلما يؤمن بحقوق الأنسان يؤمن بحقوق الخرفان. فأرادت ان تستعمل حريتها في الحركة . ولا سيما أن السفر و الأنتقال في العراق لا يحتاج في هذه الأيام الى بسبورت أو فيزة. ربما فكرت هذه الخرفان بالهجرة و طلب اللجوء السياسي في اوربا. فكثير من الذين لا يزيد عقلهم في شيء عن عقل الخروف يعيشون الآن عيشة كريمة في بريطانيا و هولندا و غيرهما من الدول الأوربية كلاجئين سياسيين.
و هكذا خرج عدد من هذه الخرفان من مزرعة اخينا الأستاذ قصي و راحت تتنقل من مزرعة الى مزرعة و من ديرة الى ديرة ، لا احد يسألها عن هويتها او يفتش صوفها او ينظر تحت اليتها فيما اذا كانت تحمل أي قنابل او تنوي القيام بأي عملية انتحارية. و عندما حل المساء و خرج الراعي لتجميع قطيعه ، وجد ان نحو ثلاثين او اربعين من غنمه قد تخلفت عن الحضور فاستنجد بأهله و اصحابه لمساعدته في البحث عنها و اعادتها الى وطنها . قضوا نحو خمسة او ستة ايام يبحثون و يدورون و يعيدون الخرفان الهاربة. توفقوا في العملية ، و احصوا عدد القطيع فوجدوا أن واحدا فقط مازال ضائعا.

سمعت الى كل ذلك فقلت الى صديقي قصي، اووووه ، هذا لازم الراعي استغل الفرصة وذبح هذا الخروف و اكله هو وعائلته. فدوة لك. اعتبرها صدقة في هالأيام السودة و الأمن مختل و مضطرب . و هذا عقاب للخروف اللي انهزم. خلي يكون عبرة لأصحابه. اللي ينهزم ينذبح.
هز الأستاذ قصي رأسه بالنفي وقال لا . الرعاة ما يخونون الأمانة. ما ياكلون خروف في عهدتهم. ثم مضى فقال . مرت عدة اسابيع على تلك الأنتفاضة الثورية من الخرفان ، و اذا به يرى رجلا اعرابيا بسيطا يلوح من طرف المزرعة. يدخل وهو يقود خروفا امامه. تقدم به حتى وصلني . سلم علينا و قال يا محفوظ هذا الخروف مالكم او مو مالكم؟ قولوا الصدق و ريحوني. ثلثة اشهر و انا دايخ بيه. شفته بالطريق حاير و ما يدري وين يولي وين يروح ، وين اهله. عرفت هذا طلي وكيح و طلع من ديرته و ضاع. ثلاثة اشهر و انا ادور بيه على راعيه. أسأل الرايح و الجاي على اهله. و كلهم يقولون لا خير. هذا مو خروفنا. حرام علينا وفوق راسنا الله سبحانه و تعالى. قلت آخذه للشرطة لكن قلت يمكن الشرطة يذبحوه و ياكلوه. بعدين واحد ابن حلال قال لي روح على مزرعة بيت القاضي. و انشد هناك. يمكن هذا غنمتهم. و دلوني على طريقكم و هاي اللي تشوفوني قدامكم . بس بيني و بينكم الله . شوفوه و عاينوه زين. اذا هذا خروفكم اخذوه مني و خلصوني . و الله تعبني هالحيوان هذا.
تقدم الراعي وكيل الأستاذ قصي و بنظرة واحدة رأى العلامة المصبوغة باللون الأزرق على ظهر الخروف و ادرك فورا انه الخروف الضائع.
سألت صديقي قصي ، ارجو ان تكونوا قد كافأتم هذا الرجل على امانته و على تعبه. قال لا. العربان يعتبرون ذلك عيبا ، أن يستلم الأنسان اجرة على امانته. و لكن الوقت كان قد حان لموعد الغداء فدعوه ليأكل معهم و يتحفهم بحكاياته.

سمعت كل ذلك من صديقي و اثارت الحكاية في نفسي هذا السوآل لماذا نجد الأمانة و الصدق بين ضعاف الناس ، المحرومين و المعوزين و المسحوقين؟ و نجد ، او فالأقل كثيرا ما نجد النصب و الكذب والأحتيال بين دهاقنة المال و الأعمال و رجال الحكم؟ هل إن الفقر يوحي للفقير بالأمانة ام إن الأمانة هي التي تجعل المرء فقيرا؟ لا ادري . و لكنها حكاية تذكرنا بأنه مهما سا ءت الأحوال و ضاع الأمن بين الناس، فما زال هناك بيننا اخيار يحملون لنا نبراس الصدق و الأخلاص و مخافة الله و ينيرون لنا طريقا افضل لإيام خير جديدة.

XS
SM
MD
LG