روابط للدخول

خبر عاجل

الكاتب واللغوي والمفكر الراهب الأب أنستاس ماري الكرملي


الكاتب العراقي خالد قشطيني

كان من فطاحلة اللغة العربية ببغداد في العصر الحديث الراهب الأب انستاس ماري الكرملي . بالأضافة الى تعقره فيها ، كان متعصبا جدا لنحوها و قواعدها و سلامة مفرداتها. بلغ فيه هذا التعصب انه كان يثور و ينزعج جدا من أي غلطة او خروج عن قول السلف. زار ديوانه يوما في بغداد الذي كان يعقده عصر يوم كل جمعة في كنيسته في محلة السنك و اعتاد عى زيارته شتى ادباء و شعراء العراق، زاره هناك صديقنا المؤرخ نجدة فتحي صفوة، ابو عايدة ، فوجده ماسكا بقلم ذي رأسين ، احمر و ازرق. لاحظ انه كلما صادف هفوة لغوية فيما يقرأه من الصحف او المجلات او الكتب ، تناول رأس القلم الأزرق و اشار الى الغلط. و كلما رأى شيئا استحسنه فيها اشر عليه بالأحمر. استغرب ابو عايدة من ذلك فسأله عن هذا التناقض. فالشائع ان نصحح الخطأ بالأحمر لا بالأزرق. فثار الأب الكرملي على اعتراضه و قال له ان هذا من بلايا الأفرنج و التفرنج. ثم شرح له ان العرب دأبت على الأشادة باللون الأحمر و اعتباره لون خير و صلاح و صحة، على خلاف اللون الأزرق الذي اعتبروه لون الشر و اللؤم و خراب الدار.

ذكرتني الواقعة بما كتبه احد السفراء العرب الذي بعث به الخليفة في مهمة الى اوربا ثم عاد فكتب الى الخليفة يصف الأفرنج بأنه وجدهم قوما قساة القلوب و استشهد بعيونهم الزرقاء دليلا على قسوتهم و غلاظة نفوسهم. و الحقيقة اننا اذا استعرضنا الأدب العربي فلن نجد فيه أي غزل بالعيون الزرق. كانوا يتغزلون بالعيون الكحلاء و السوداء و نحوها من الألوان و لكن ليس بالعيون الزرقاء، كما اصبحنا نفعل في هذه الايام. اول ما سمعته من الغزل بالزرقة كان تغزل الشاعر العراقي حسين مردان في قوله :" واها لتلك العروق الزرق في ساقيك." وهو طبعا من الشعراء المحدثين الذين وقعوا بسحر التأثير الغربي، الذي كان في سياقه الأعجاب باللون الأزرق.

من المتفق عليه في علوم النفس أن النظرة نحو الألوان كثيرا ما تتوقف على نفسية الشعب. فاليابانيون و الهنود الحمر في امريكا يحبون اللون الأزرق. و الهندوس و البوذيون يقدسون اللون الأصفر و البرتقالي. الروس مثلنا يحبون اللون الأحمر. و منه جاء اسم الساحة الحمراء. وقد اورد ابن سيرين مط\لعة مسهبة في دلالات الألوان. و نراه يعتبر الثياب الحمر شيئا مكروها في الرجال . و لكنه مرغوبا في المرأة و حمرة الأزار و الملحفة و الفراش تبعث على السرور. و العلم الأحمر للزاهد يحمل له الفرج و المسرة. أما اللون الأزرق فيجلب الهم و الغم. يلاحظ أي ضيف على خيام البدو ، كما لاحظت مرارا في العراق والكويت ، التركيز على اللون الأحمر في الأفرشة و الستائر و هوادج الجمال و تزويقها.

نلاحظ مثل هذا التوجه في كثير من الأستعمالات اللغوية و الأدبية . فالحسن الأحمر هو الحسن الشديد و الحميراء هي بيضاء البشرة و الرطب ذو الحمرة هو الرطب الكثير الحلاوة و هو التمر البربن المحبوب في العراق مع الخستاوي و البرحي. وفي القرآن الكريم نجد اشارتين لهذين اللونين ، الأحمر كلون ابتهاجي في قوله تعالى في سورة فاطر " و من الجبال جدد بيض و حمر مختلف الوانها." و في مقابل ذلك نجد الأشارة السلبية للون الأزرق في قوله تعالى ( سورة طه) عن الكافرين : " يوم ينفخ في الصور ونحشر المجرمين يومئذ زرقا." و على غرار ذلك جاء قول الشاعر:

لقد زرقت عيناك يا ابن مكعبر
كما كل ضبي من اللؤم ازرق

وكان من الطريف ان نجد هذا الراهب المسيحي، الأب انستاس الكرملي، يشتشهد بكل ذلك من الذكر الحكيم و لكن كذا كان الحال مع سائر اخواننا النصارى الذين اعتبروا تراث القرآن و الاسلام جزء لا يتجزء من ثقافتهم و ما زالوا يفعلون.

على صلة

XS
SM
MD
LG