روابط للدخول

خبر عاجل

نادرة عن وليمة ملکية أقيمت في بغداد أواسط الخمسينيات


خالد القشطيني – لندن

بلغت العاصمة العراقية بغداد أوجها من الأهمية والمكانة في الخمسينات من القرن الماضي عندما أصبحت مركز الحلف الذي سُمِّيَ باسمها، حلف بغداد. واشتركت فيه تركيا وإيران وباكستان. تحولت بغداد إلى ساحة للفعاليات والنشاطات الدولية والإقليمية. وكان منها أن وفد إليها في أواسط الخمسينات السيد جلال بايار، الرئيس التركي حينئذ، للتوقيع على الحلف بنفسه. وبالطبع سارع البلاط الملكي إلى إعداد وليمة رسمية فاخرة تليق بالضيف الكبير، لاسيما ولاسم بغداد وقعه في نفوس اخواننا الأتراك الذين حكموها لعدة قرون.

دُعِيَ للحفلة مئات الضيوف من الشخصيات العراقية والأجنبية. وصدرت التعليمات لفريق من الطباخين لإعداد أفضل الأطعمة التي تضمنت عشر خرفان محشية بالرز واللوز والكشمش والبهارات على طريقة الطبخ العربي. وترأس فريق الطباخين طباخ كردي ماهر. ولكنه لسوء الحظ تميز بمزاج عصبي جدا كمعظم أبناء قومه. وفيما كان منهمكا بإعداد كل شيء في الوقت المحدد، قام بغزو المطبخ عدد من أفراد الحرس الملكي وضباط الصف من وحدة الانضباط العسكري وطالبوا بحصتهم من العشاء.

كان من المعتاد تاريخيا أن يتناول الحرس والجنود طعامهم بعد أن ينتهي الضيوف من المأدبة ويخرجوا من القاعة فيأكلوا مما تبقى على الموائد من الطعام. غير أن استمرار الضيوف في هذه المناسبة بالحديث والشرب إلى ساعة متأخرة ترك الجنود في حالة سيئة من الجوع. فهم كمعظم أبناء العراق اعتادوا على تناول العشاء بعد الغروب مباشرة. بيد أن هؤلاء الضيوف من رؤساء ووزراء وسفراء يطوف بهم الملك فيصل الثاني وولي عهده رحمه الله، لم يلاحظوا تقاليد الأكل عند الأكثرية العراقية ولا فكروا بجوع الحرس الملكي فاستمروا في أحاديثهم الشيقة وغير الشيقة، بما أساء إلى بطون هؤلاء الحرس. فتدفقوا على الطباخ حما وطالبوا بطعامهم. قالوا له: "يستطيع الضيوف أن يأكلوا بعدنا. وعندك أكل واجد كثير."

بالطبع لم يستسغ الطباخ حما هذا الكلام وأنذرهم بالخروج فامتنعوا وتعالى الصياح والهرج والمرج ففقد حما أعصابه وهجم على صواني الخرفان وقدور الرز والباميا والباذنجان والشيخ محشي وطاح بكل شيء على الأرض ثم ألقى بالزبالة فوقه وراح يدوس بقندرته على كل شيء في حالة نادرة من الهستيريا. ثم ترك المطبخ وانصرف إلى بيته وهو يولول: "خلي ملك مال أنتو ياكل هوا!"

بعد دقائق قليلة حان موعد المأدبة الرسمية. ويا لهول الخبر. همسوا بأذن رئيس التشريفات الملكية بما حدث. أسرع هذا ليخبر الأمير عبد الإله بما جرى. وبعد قليل من التشاور السريع، لم يجد عبد الإله أي مخرج بغير الطلب من المرافقين بأن يسرعوا إلى باب المعظم وباب الشرقي والحيدرخانة ويأتوا بما توفر فيها من كباب وفشافيش وبيض غنم وكبة فتاح مع ما تيسر من الطرشي والبصل والكرفس. وجرت المأدبة الرسمية بهذا الشكل. وعندما انتهت، لم يتمالك الضيف الكريم، الرئيس جلال بايار، غير أن يعرب عن عميق إعجابه بما ذاق من طعام عراقي أصيل لم يسبق له أن ذاق مثله في مأدبة دبلوماسية رسمية. ومن ذاق فشافيش بغداد وكبابها وطرشيها بعد منتصف الليل وما سبقه من مشروبات لا يستطيع غير أن يثني ويثمن ما قاله الرئيس التركي.

في اليوم التالي بعث ديوان التشريفات الملكية على الطباخ حما ليؤنبه على فعلته فأجابهم بما اشتهر به الأكراد من صراحة. قال: "بابا أنتو لازم يعرف شلون يأدب هازا الجنود مال أنتو!"

استأنس الحاضرون باحتجاجه ونصحه في ذلك اليوم من تلك الأيام، أيام الخير الطيبة الذكر.

على صلة

XS
SM
MD
LG