روابط للدخول

خبر عاجل

حلقة جديدة


خالد قشطيني

كان من متع الصبيان المراهقين في عراق ما قبل الثورة ، السير في شارع الرشيد من باب المعظم للباب الشرقي و ابتكار ما يمكنهم ابتكاره من وسائل الانس في هذا المشوار من ابسط الاشياء و اتفه الامور . هذا ما يفعله الصبيان في كل مكان عندما يكونون احرارا بوقتهم لا طائفية ولا فدرالية و لا ارهابية ولا هم يحزنون. اما وسيلة عصبتي من اخواني في طرفنا ، فكانت ان نتوقف عند رأس جسر الملك فيصل و نتوجه نحو بناية حافظ القاضي. على قمة هذه البناية وضعت شركة السيارات الامريكية اعلانا ضخما من النيون بهذه الكلمات الثلاث : " لنكولن فورد مركري. " و كان الجمهور يقرأون هذه الكلمات الاجنبية بشتى الصور و يصيغون منها شتى العبارات البليغة و غير البليغة. كنا احيانا نقرؤها فنقول لنكولنّ فورد و كركري. و نستغرق في الضحك. نقرؤها احيانا فنقول لنكو لنفو و مركتي. فنرقص في اماكننا جذلا . مرة اخرى نقرؤها لنك و لن فورد و مرّ كري. و احيانا نحولها الى عبارات بذيئة من الفشار السوقي ، مما يلذ لي قوله و اعتذر عن اذاعته. و لكننا في كل الاحوال كنا نغص ضحكا و نهتز و نتقافز مرحا و طربا و كإننا قمنا بمسرحية من مسرحيات شكسبير.


المهم في هذه الكلمات الثلاث انها كانت مكتوبة بمصابيح النيون الكهربائية بحيث تشتعل لعدة ثوان ثم تنطفيء لعدة ثوان على نحو ما يجري لكثير من الاعلانات التجارية. كان هذا شيئا عجيبا بالنسبة لنا في بغداد و تحيرنا في هوية الرجل المسكين الذي يقضي الليل و النهار يطفيء و يشعل هذه الكلمات كل بضع ثوان. حرنا في امره ، متى يأكل؟ كيف يذهب لقضاء حاجته؟ متى ينام؟ ماذا تفعل زوجته اثناء غيابه؟


غير اننا سرعان ما اكتشفنا ان لهذه العملية ايقاعا خاصا له توقيته الخاص. و تعلمنا على مجاراته . ننفخ باتجاه الكلمات الثلاث فتشتعل و نبصق عليها فتنطفيء ، فنضج بالضحك و العربدة و الجذل و ننط و نتقافز على الرصيف ، ونعرقل كل سير المارة و نحن ي هذه السورة من البهجة و المتعة المجانية. اتقنا العملية الى درجة اننا لا نكاد نبدأ بالبصاق حتى تنطفيء الكلمات فورا و لا نبدأ بالنفخ حتى تشتعل فورا. كان ذلك بالنسبة لنا مدعاة لاعتزاز و فخر عظيم.


دأبنا على ذلك حتى جاءت الشرطة و خربت البهجة كعادتها. تقدم نحونا العريف خلف ، شرطي النقطة، و القى القبض علينا بتهمة اهانة الدولة و التعرض للذات الملكية. قال انكم تتفلون على صورة الملك فيصل الثاني المعلقة في فاترينة المصور ارشاك المقابلة لبناية حافظ القاضي. حاولنا عبثا الاشارة الى لنكونلن فورد مركري و الاصرار على وطنيتنا بتحدي المنتجات الاجنبية بالبصاق عليها.


اقتادنا العريف خلف الى مركز شرطة العباخانة حيث وجهت الينا التهمة ، و لكن ضابط المركز سمح لنا كقاصرين بالاتصال بذوينا ، ففي ذلك الزمن كانوا يسمحون في العراق للمعتقلين بالاتصال بذويهم و الدفاع عن حقوقهم. فجاء الاعمام و الاخوال و الجيران و الاخوان يتوسطون و يشرحون و يتوسلون . شهد احدهم بمقدار حبي للملك و كيف انني لم ادخل للحمام يوما الا و سمعني اغني " فيصل يعزنا و سور النا."


اخيرا ، احالونا الى حاكم التحقيق الذي سبق ان تلقى عشرات المكالمات و الوساطات من الاعمام و الاخوال و الجيران بشأننا ، فبادر الى سوآل العريف خلف اين كنا نقف؟ فقال في رأس الجسر . ثم سأله وين ستوديو المصور ارشاك؟ فقال على الجانب الجنوبي من شارع الرشيد مقابل بناية حافظ القاضي. فصرخ فيه الحاكم ، ولك يا حمار، كيف كان بامكانهم اذن ان بشوفون صورة الملك من تلك الزاوية؟ انهال عله بالشتائم و التحقير ثم امر بالافراج عنا.


خرجنا من المحكمة و عدنا الى استئناف متعتنا اليومية بالنفخ و البصق ، و لكن ليس في اتجاه " لنكولن فوردر مركري" هذه المرة و انما باتجاه ، ئي نعم ، باتجاه العريف خلف ، و المسكين يتحمل و يسكت.
و كانت ايام خير و حلوة من ايام ، و فات.

على صلة

XS
SM
MD
LG