روابط للدخول

خبر عاجل

النوع التقليدي في التعامل العائلي بين العراقيين وقصة لطيف ابن الشيخ محمود


خالد القشطيني – لندن

يعود الكثير من سلوكنا إلى قوة علاقاتنا العائلية. اعتدنا أن نكلم الكبار بكلمة (عمي). نقول: "عمي بيش الساعة؟ عمي وين المدرسة؟" ونكلم أي امرأة بكلمة (أختي): "أختي ممنوع الدخول." هذا شيء غير جائز في الغرب. على الطفل هناك أن يخاطب الغريب بكلمة (مستر) أو (مسيو).

أوقع ذلك ولدي نايل بمأزق عند زيارتنا للعراق. زارنا أخي موفق فقلت له: "هذا عمك موفق، فوت بوسه." بعد ساعات جاء أخي مؤيد فقلت له: "هذا عمك مؤيد. بوس عمك مؤيد." استمرت العملية: "هذا عمك فلان وهذي عمتك فلانة، قم بوسهم!" بعد أيام كنا في ساحة التحرير، ففلت من يدي وراح يعدو بين السيارات. أسرعت وراءه: "ولك وين رايح يا نايل؟" أشار بيده الصغيرة نحو وسط الساحة وقال: "أريد أبوس ذاك العم." - "ولك ذاك مو عمك. ذاك شرطي المرور." راح يتصور أن كل رجل في العراق هو واحد من أعمامه. حيثما رأى رجلا معه شكولاته أو آيس كريم، ركض نحوه: "أريد أبوس عمي هذاك."

عبثا حاولت أن أفسر له أن الأعمام في العراق يختلفون عن الأعمام في بريطانيا. ففي الشرق كل رجل بمثابة عم للطفل. والواقع أننا نستمر في هذا التعامل العائلي حتى في الكبر. يأتي شخص ويقول لك: "صدر قرار بالعفو عن جميع المعتقلين"، فتقول له: "يا عمي أنت تصدق بكلام الحكومة؟ يا عمي."

وعلى الرجل أيضا أن يتصرف في الواقع كعم. إذا رأى ولدا يسيء الأدب في الشارع أو يعتدي على أحد، فعليه أن يتدخل ويوبخه ويؤدبه. ويكون والده شاكرا له تدخله. وهذا غير جائز في الغرب. هذا النوع التقليدي من الألفة والدفأ في التعامل بين المواطنين كعائلة كبيرة واحدة، أخذ يختفي في العهود الثورية عندما أخذت السلطات تسعى إلى تمزيق التضامن العائلي، تحث الابن على التجسس على أبيه وإخوته والوشاية بهم.

ولكن الأمر كان مختلفا في السابق، في ايام الخير. وهو بالضبط ما فعله الشيخ مصطفى القرداغي عندما كان متصرفا على لواء السليمانية في وقت عانت فيه المنطقة من الاضطرابات. وكان الشيخ لطيف ابن الشيخ محمود مسؤولا عن الكثير منها. استلم المتصرف برقية بإلقاء القبض عليه. أدرك القرداغي أن السيد لطيف سيقاوم بما يؤدي إلى معركة تسيل فيها الدماء. فركب سيارته وذهب إلى والده. سلم عليه ثم قال له: "أريد منك شيخنا تخبر ابنك لطيف وتقول له عمك مصطفى يريد يشوفك." أدرك الشيخ محمود ما وراء ذلك. فقال إن ابنه سيمتنع. فرد عليه قائلا: "كيف يمتنع؟ آني عمه وأريد أشوفه ويقول لا ما أروح؟ شيخنا ما عليك غير أن تقول له عمك أبو كامران يريد يشوفك."

بلغه بالأمر. ولم يجد ذلك الثائر المتمرد غير أن يلبي الطلب ويحضر: "نعم عمي أبو كامران." قال له: "أريدك تلم غراضك وتجي معي إلى بغداد." لم يستطع لطيف أن يعصي طلب عمه. فجاء بأمتعته وانطلق الاثنان بسيارة المتصرفية، سليمانية رقم واحد. مرت بالمدن والقرى والناس والشرطة في ذهول عما يرون. لطيف الثائر راكبا في سيارة الحكومة. ذهب به المتصرف فورا إلى وزير الداخلية. هذا لطيف ابن الشيخ محمود. طلبتوا مني أن أحبسه. هذا هو أمامكم. أريد منكم تستأجرون له بيت وتدفعون إيجاره وتخصصون ما يكفي لمعيشته، هو وحراسه. وهو هنا في بغداد بعيد عن الجبل وتستطيعون أن تراقبوه بحيث لا يقوم بأي مشاكل.

وافق الوزير على ذلك. فقضى الشيخ لطيف نحو خمسة أشهر في بغداد يحرسه اثنان من حرسه (البيشدر) واثنان من الشرطة. بقي كذلك حتى هدأت الأحوال في السليمانية. ركب المتصرف سيارته ثانية إلى بغداد: "ابني لطيف لم غراضك. الآن تجي ترجع معي إلى بيتك وأهلك في السليمانية." وهو ما كان.

وهكذا كان، يا عمي المستمع، بهذا الشكل الحضاري الرقيق وفي إطار تقاليدنا العائلية، كانوا في أيام الخير يحلون أكبر المشاكل. لا عدوان ولا خطف ولا تقتيل ولا تعذيب. هكذا كانت تحسم الأمور في أيام الخير يا عمي وراحت ويا الأعمام والأخوال في تلك الأيام من أيام الخير.

على صلة

XS
SM
MD
LG